القصص الأمازيغي وقصص القرآن
ها قد عدنا للقصص الأمازيغي الممتع، بعد أن كان آخر لقاءنا معك زائرنا بقصة "عوج تيفيكشت"، هذه قصتنا الثامنة لك "تانوحت د سيدنا سليمان"، والتي ترجمتها : "البومة وسيدنا سليمان"، وحرف الدال الساكن هناك يحل محل واو العطف العربي .
يقول الراوي : (وبكل رمضان أتذكر القصص الأمازيغي لجدي، ومن القصص الأمازيغية التي لم أنساها، كانت قصة سيدنا سليمان والبومة الحكيمة، وقد تفاجئت وقتها، كون أجدادي الأمازيغ لهم علم بالقصص المذكورة بالقرآن!؟) .
وتابع الراوي كلامه قائلا : ( لكن أبي قال أنها قصة من الخيال الأمازيغي، إعتمدوا ماجاء في القرآن من كون سيدنا سليمان عنده علم بمنطق الطير وقصته مع الهدهد، فنسجوا من خيالهم على منوالها قصتهم هذه، وأن هذه القصة تحديدا من القصص التي يحرص الأجداد أن تصل للأحفاد كونهم يعتبرونها رسالة وعبرة لهم، ولذلك جدي أحب وأصر أن يقصها علي رغم صغر سني).
القصة الأمازيغية :"سيدنا سليمان والطلب الغريب"
جاء الموعد وتجمعت عائلتي الصغيرة كعادتها، وقد علم الكل أن قصة جدي لهذه الليلة هي "تنوحت د سيدنا سليمان".
قال جدي عن جده أنه يحكى قديما، أن إحدى زوجات سيدنا سليمان بليلة من الليالي، وهي تنظر إلى الأجواء المضيئة من حولها حيث القمر كان بدرا ، طالبته بطلب غريب !! لكنه ليس مستحيلا على سليمان ملك الجن والإنس والحيوان .
فقد طالبته بأن يأمر بنسج برنسا مزركش من ريش جميع أنواع الطيور لها خصيصا، وتريده برنسا تقوم الدنيا لنسجه ولا تقعد، فهي تحس نفسها كذلك البدر الذي هو فوقهم في السماء، وليكن البرنس شاهدا ودليلا أمام الجميع على أنها الأفضل من بين زوجاته، وليعلم الجميع أنها المميزة بينهن كلهن.
سيدنا سليمان وتجميع الطيور
ضحك سيدنا سليمان من طلبها واستسهله، وأرسل بالفجر مناديا من الطيور إلى كل أجواء مملكته، يأمر أن تجتمع كل أنواع الطيور وبأسرع مايمكن، واللقاء بالساحة الكبرى للإحتفالات بالمدينة فقد تقرر إنتزاع من على كل طائر ريشة أو إثنتين وربما أكثر، وذلك لنسج برنس لإحدى زوجات سيدنا سليمان.
وبعد الظهيرة دقت الطبول، وخرج سيدنا سليمان بإتجاه الساحة الكبرى في موكب بهيج وهائل يليق بمقامه، وقد إنتشر الخبر بكل البلاد، وخرج الناس لرؤية الموكب السليماني ومشاهدة أنواع الطيور وهي تتوافد على الساحة الكبرى.
وكان أول الوافدين هو المعروف بالخفاش أو الوطواط وبالأمازيغية معروف بإسم (فرططو) وقد أزعج بأصواته المسؤولون هناك بإستقبال الطيور فحبسوه بعيدا بقفص إلى حين وصول سيدنا سليمان الفاهم لمنطق الطير.
سيدنا سليمان وطائر الخفاش
قال الخفاش بالأمازيغي:
"زراتي زربغ"، zraty_zerbegh "، ومعناها بالدارجة المغربية:
"ريشوني مامسالي "،
وما أن وصل سيدنا سليمان وأعتلى عرشه، حتى جاؤوه بالخفاش، وبعد أن قدم هذا الأخير التحية الملكية، سأل سيدنا سليمان أن يأمرهم أن ينتزعوا ماشاؤوا من ريشه لأنه على عجل، لكن سيدنا سليمان أخبره أنه لابد وأن ينتظر وصول بقية الطيور كي يتظح ماسينتزع من كل فصيلة، فاستسمحه الخفاش كونه لايهمه الأمر فلينتزعوا ماشاؤوا فلا وقت لديه.
قائلا الجملة المعروفة بالوسط الأمازيغية: "زراتي زربغ"، zraty_zerbegh والتي تعني: "إنتفوني!أنا مستعجل"، وبالدارجة المغربية: "ريشوني أنا زربان"، وهذه الجملة عند الأمازيغ صارت تقال حين تحاول شرح معطيات لمن يطالبك بشيء وهو مستعجل أن يلبى طلبه بلا أي شرح.
وهكذا صاح سيدنا سليمان بالمكلفين، أنه مادام الخفاش في عجلة من أمره، ورغم أن العجلة غالبا ماتكون ندامة على صاحبها، إلا أنه قد تقرر إنتزاع كل ريش الخفاش إحتياطا.
فربما لن يكفي ماسينتزع من الطيور الوافدة بعده، كما أنه ليس كل ريش هو صالح للنسج، وفعلا ذاك ماحصل، فقد انتزعوا أغلب ريشه وآنطلق أقرعا ودماءه تتقاطر، وقال جدي أنه من يومها وسلالته على شاكلته قرعاء بلا ريش.
سيدنا سليمان وطائر البوم
سيدنا سليمان وتبريرات البومة
قال جدي ، كل ذلك والسكون يعم المكان ، فأما جنس البشر فلا علم لديه بمنطق الطير ، ولا يفهم ماتقوله تانوحت (البومة) ، وكل حدود علمه أن سيدنا سليمان لعلمه بلغة الطير مؤكد هو وبخها ، والأكيد هي الآن تعتذر منه .
أما الطيور فتبادلوا نظرات سريعة إستخفافية ، كونهم يعتبرون فصيلة البوم ، متفلسفين وكثيروا كلام ، وبالنسبة لهم طائر البوم مغرور ، ويعتبر نفسه دائما أكثر الطيور حكمة .
وهم الآن متيقنين أن تانوحت (البومة) ستقع في شر أفكارها ، فكيف بإرسالية نداء ترسل فجرا ، ولا يصل البوم إلا عند مغيب الشمس !! هذا شئ فاضح في حق فصيلتهم ككل!! .
هنا سألها سيدنا سليمان عن الثلاث كلمات اللواتي شغلنها عن الإسراع إليه بسربها ؟
فأجابت تانوحت : (أصابتني الحالة ياسيدي منذ ليلة أمس والبدر مكتمل بالسماء وقد أضاء كل شيء من حولي، ومن وقتها إلى حدود وصول نداءكم لنا بالمجيئ فجرا، كنت مازلت جالسة أتأمل السماء والأفق وخيوط الصبح تغزو سماءنا بحنان ورفق.
تذكرت ليلة أمس جدتي البومة القرمزية رحمة الله عليها، أخبرتني بليلة مقمرة كليلة أمس أن النهارات لو أحصيناها فهي أكثر عددا من الليالي، كما الأحياء أكثر عددا من الأموات، والنساء أكثر عددا من الرجال، وكنت قد سألتها كيف ذلك ؟ وأجابتني وأقنعتني أيما إقناع فقد كان لها حقا تفسير موزون أذهلني يومها.
لكن أمس يامولاي صدمت لأني كدت أفتقد أحد أجوبتها! وفكرت وفكرت إلى أن تمكنت منه ليطمئن بالي على فطنتي، فلتنتزعوا الآن يامولاي وياسيدي ماشئتم من ريشي، فأنا وكل ماخلق ربي كما تعلمون من الطائعين لكم ودوما تحت أمركم).
سيدنا سليمان وحكمة البومة
مد سيدنا سليمان إليها دراعه وفهمت المراد، وبلمحة بصر حطت عليه، ومشى بها جهة الغرب وابتعد عن الجموع والشمس على وشك الغروب، وسألها ماذا كان جواب الثلاثة المتعبات لفكرها منذ ليلة أمس ؟
فأجابت تانوحت(البومة) الحكيمة : ( زادك الله عزا ياسيدي و يامولاي وزادك فهما وحكمة، فأما كون الليالي أكثر عددا من النهارات، فلأن النهار كما نعلم جميعنا للعمل والسعي، وعند إحصاءنا لها فالليلة المقمرة تعد من النهارات، لأنها المعينة على قضاء الأعمال المزاحمة لوقتنا، بل إن من تلك الليالي ماقد يسافرها التاجر ويقطع بها المسافات، وتكسبه وقتا إضافيا لسعيه على رزقه، وبذلك لم تعد تلك الليالي هي ذلك الليل البهيم الذي ينامه الإنسان ليستيقظ وينطلق للسعي والعمل، بل هي نهار آخر بجانب نهاره يعينه على عمله وسعيه، وهكذا حتما سيدي ستفوق النهارات الليالي بالعدد.
أما كون عدد الأحياء يفوق عدد الأموات ياسيدي ويامولاي، فهذا لكون الميت هو من لم يعد بيننا ولايذكر ولا يأتى على ذكره، أما من ظل ذكره على ألسنة الأحياء ، فهو حينها منهم ويزيدهم عددا، بخلاف من هم تحت الترى ولا يذكرون فأولائك هم الميتون، والأحياء ياسيدي أبدا لا ينسون الأخيار الخيرين، فهم أحياء بينهم بذكر جميل فعلهم.
وأما كون النساء أكثر عددا من الرجال ياسيدي ويامولاي، فلكون الرجولة عند الرجل تتجسد حين يعتمد على رأيه ورجاحة فكره، وكلمته يكون لها وزنها وقراراته لها ثقلها، وحضوره له هيبة ومنطقه له حكمة، والمرأة لضعفها ورقتها تطمئن إليه وتستند عليه، وترمي بكل ضعفها عليه، فهو أمنها وحاميها وسيدها وتاج رأسها.
وغير هؤلاء من الرجال لا يعدون أبدا رجالا ! المنقادون ولا يقودون وهيبة النساء تمحي هيبتهم، وهم كثيرون للأسف.
ولا أحد ينكر يامولاي وياسيدي قلة الرجال المعتمد على رجاحة عقلهم اليس كذلك ؟ المهيبين والذين لهم وزنهم ، الذين يقررون ولا يقرر لهم، وبذلك تفوق النساء الرجال عددا).
ضحك سيدنا سليمان، وأخبرها أنها حقا حكيمة، أحنت تانوحت (البومة) رأسها خجلا.
خاتمة
وكان قرص الشمس قد غاب في الأفق ، فأعطى إشارة بيده لحاملي القناديل المضيئة ، وكانوا على بعد أمتار منه ، فأسرعو إليه واصطحبوه إلى حيث الجموع الغفيرة واقفة في وجوم وإنتظار لإنطلاق عملية إنتزاع ريش الطيور .
وماأن وصل مكان كرسي العرش وجلس ، حتى أعطى إشارة بدق الطبول ، وظنت الجموع أن العملية ستنطلق ، وقد عمت أضواء القناديل كل المكان ، لكن دق الطبول توقف ، وسمعوا المسؤول بتبليغ القرارات يصيح بالجموع : (بسم الله الرحمان الرحيم بمخلوقاته، بسم الله الرحمان الرحيم بعباده، بسم الله الرحمان الرحيم المحب للرحمة، الذي خلقنا رحماء وأمرنا بالتراحم فيما بيننا، ونهانا عن الظلم وقسوة القلب، إنه من سليمان إلى كل الطيور الذين أسرعوا تلبية للنداء، فقد تقرر عدم تتميم عملية إنتزاع ريشكم، وقد كان قرارنا الأول الغافل قرار بلحظة غفلة، نبهنا الله ونبهكم لما فيه خيرنا وخيركم ).
وهنا صاح بهم سيدنا سليمان وتانوحت على كتفه، :قائلا البيت الشعري الأمازيغي المشهور
☆
الحق ماقلت يابومة // معاب هو الرجل بلا رأي
من قرارته من إمرأة // نهايته أن يكون شبيهها
☆
نيت أيتنيت أتانوحت // إيخا ورياز إتياران
ونا دايتكان راي إيتمتوت // آديك أم نتات
☆
Nniyt aytennid atanouht
Ikhkha weryaz ityarran
Wenna daytteggan rray itmettout
adig am nettat
☆
وأعطى إشارة للطيور ، وطارت بإتجاه أوكارها فرحة ، بعد أن عمت زقزقاتها المكان ، وهي تتشكر سيدنا سليمان لرأفته بها .
واصطفت جموع الإنس في وقار وإجلال ، منتظمة على حافتي الطريق لمرور موكب سيدنا سليمان ، عائدا إلى قصره ودق الطبول يهز المكان ...وهنا انتهت قصة جدي لهذه الليلة.
ضحكوا وتمازحوا فيما بينهم متذكرين أول عهدهم بقصة "تنوحت د سيدنا سليمان"، وقالت أمي أن جدتي كانت تتعمد أن تتغنى بذاك البيت الشعري أمامها هي وأبي بأول زواجهما.
وضحكت جدتي ووافقتها معترفة بكل فخر، وقالت أنها أيضا كانت تسمعه مرارا وتكرارا من حماتها بأول زواجها بجدي، لكني قاطعتهم متسائلا :(كيف تحكون قصص من الخيال عن سيدنا سليمان عليه السلام ؟ هل هذا ليس حرام ؟) فأجابني جدي : (المهم الآن ياصغيري هو المعنى، إن فهمته فهذا رائع وإياك أن تنساه يوما، وأوعدني أنك ستقصه على أبناءك وأحفادي، وإن لم تفهمه الآن ؛ لاعليك، مؤكد سيتضح معك يوما) .
1442/2021
Written in Ramadan Corona