منزلة الإرادة من منازل الإيمان وهي موضوعنا اليوم، السلام عليك زائرنا مجالس الإخوة Majalis-Al-ikhwa يزيد بهاءها بمتابعتك لها. وبعد أن كنت معها "بمنزلة التوبة" سيكون مجلس اليوم عن"منزلة الإرادة" المصاحبة للسالك إلى الله.
"الإرادة" منزلة من منازل الإيمان
منزلة « الإرادة »، أو درجة « الإرادة »، أو مقام « الإرادة »، منزلة يجب أن يحققها العبد مباشرة بعد توبته إلى الله عز وجل.
يقول شيخنا فريد الأنصاري، أن المؤمن حينما يختار أن يسلُكَ إلى الله عبر "مدارج الإيمان" وعبر معراج الصلاح إلى الله، ينطلق من "التوبة" كما بينا ذلك بالمقال السابق، ولكن توبة العبد لا تثبت إلا بشروط -مجموعها مُلخَّصٌ- في "الإرادة" .
فيحتاج التائب إلى مثبتات على التوبة ؛ لأن الشيطان لعنة الله عليه لا يترك التائب على توبته ، فإذا تاب من خمر لابد أن يذكره بها مرة مرة ، ويأتي له بشياطين الإنس من الأصدقاء مما يطرقون عليه باب إعتزاله ليسألوه : « مالك يا فلان قد هجرتنا؟ » ويقدمون إليه الخمر هدية ، حتى يردوه إلى الفساد ، حتى إذا رجع أصبح هو من يؤدي ثمن الخمر .
وهذه صور كثيرة في مجتمعاتنا نعرفها جميعاً في الخمر ، وفي الزنا ، وفي السرقة ، وفي الفساد ، وفي سائر أنواع المصائب والموبقات ، نجانا الله وإياكم وعصمنا منها.
فإذن حتى يثبت الإنسان في طريق الصلاح ينبغي أن يدخل بسرعة مقام "الإرادة" لتكون توبته توبة نصوحا ، لا يعود بعدها أبداً بإذن الله عز وجل إلى طريق الضلال جزئيا أو كليا إلا أن يشاء الله .
الإرادة أساسها الإستمرارية
هذه "الإرادة" هي التي اشتق منها أهل التصوف مصطلح المريد، والمريد الذي نتحدث عنه إنما هو المريد الحق الذي اتبع الطريق الحق ، الطريق إلى الله عز وجل ، وذلك قوله سبحانه : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(الكهف : 28).
الإرادة المطلوبة إنما هي المبنية أساساً على الإستمرار ، لأن المشكل الكبير عندنا في الدين أو في التدين أو في ممارستنا الدينية ، هو الدّوام ؛ فالدين ليس فيه مشقة ، إطلاقا ، كلما ثقل عليك أمر أو شق عليك أو حرُجَ ، كانت لك فيه رخصة .
لا يوجد في الدين إطلاقا نازلة من النوازل ثقلت على صاحبها ولم يعطه الله فيها رخصة ، كل الشدائد ، كل الضرر ، كل الحرج مرفوع وهذا من كليات الشريعة الإسلامية ، ومن أصولنا التعبدية ، ولكن الصعب عندنا في الدين هو الدوام على الأمر السهل .
ولذلك قال الله عز وجل {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الغداة أي الصباح ، والعشي أي العشية ، وهما رمزان للدلالة على تحول الوقت ؛ تحولين كبيرين في أربعة وعشرين ساعة ، تحول بروز النهار ، وتحول غروب النهار وبروز الليل ، فهما رمزان إذن على سيرورة الزمان وسيرورة الوقت ، رمزان دالان على الدوام والاستمرار ، فإذن المشكل هو أن تَثْبُتَ على هذا اليسير وعلى هذا السهل بالغداة والعشي . فكيف الثباث عليه إذا؟
الإرادة المقصودة لوجه الله
لا يمكن أبداً أن تثبتَ على هذا السهل القليل إلا إذا كنت مريدا وجه الله، {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} ، ما صفتهم؟ {يريدون وجهه} ، وهذا الأمر من أعمق معاني العبادة في الإسلام ، حينما يريد العبد وجه ربه ، ووجه الرب سبحانه وتعالى هو وجه الجمال والجلال والكمال .
ثبت في الصحاح أن خير ما يصل إليه العبد في الجنة أن يرى وجه ربه ، {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}(القيامة : 22)، إذن فالدافع واضح بالآية {يريدون وجهه} الذي أراد وجه الله عرف ما أراد ، ومن عرف ما أراد فإنه حينئذ يقصده ، ومن عرف ما قصد -كما يقولون- هان عليه ما وجد .
إذن تبين أن المؤمن لِيكون مريدا حقا لوجه الله لابد وأن يعرف ربه ؛ لأنه لا يمكنك أن تكون مريدا لله وأنت لا تعرف الله ، لا يمكن في الطبيعة البشرية أن يحب الإنسان شيئا لا يعرفه ، فالمحبة لا تتعلق بمجهول هذا منطق ، شيء لا تعرفه إذا لم تكرهه لا تحبه ، فليكون المؤمن محبا لله مريداً له لابد وأن يعرف الله عز وجل ، فكيف أن يتحقق له ذلك؟
الإرادة تلزمها المعرفة بالله
لا يمكن للعبد المريد أن يعرف الله حقيقة إلا بعد أن يتذوق من نعمائه وأفضاله وخيراته ؛ لأن معرفة الله إنما تقع بتذوق نعمه وأفضاله سبحانه وتعالى .
نحن الآن في الدنيا نسير إلى الله عز وجل عبر ممرين إثنين : فإما أننا نعرف ديننا عن طريق النصوص، الكتاب والسنة ، وإما عن طريق التجربة الوجدانية .
فأما ما يكون عن طريق النصوص فهو "العلم" وأما ما يكون عن طريق التجربة الوجدانية فهو "المعرفة" ، ولذلك فرقوا من قبل بين "العالِم بالله" و"العارف بالله" فليس كل عالم عارفاً بالله ، كما أنه قد يكون العالم عارفاً بالله وأيضا قد يكون العارف بالله عالما ، وقد لا يكون .
إذن العلم علم النصوص وكيفيات العبادة ، هو أحد الأمور التي نتعلم بها كيف نعبد الله عز وجل ، بالنصوص والاستدلال والقياسات إلى آخره ، أما المعرفة فهي إحساس قلبي .
فالذي عرف أي وجد بذوقه وقلبه معنى رحمة الله ، ومعنى فضل الله ، ومعنى كرم الله ، فرق كبير بينه و بين شخص يعد أسماء الله الحسنى كلها والذي يعتبر عنده علم بها ، فتسأله ما هي أسماء الله الحسنى ؟ يسردها عليك بالتتابع حتى يكمل التسعة والتسعين، عكس الأول الذي يُدرِك هذه الأسماء ، مع أنه لن يستظهرها مرتبة ولكنه يدرك ما الرزاق مثلا : لأنه عندما يجوع ويحس بأنه محتاج إلى الله عز وجل كي يرزقه ثم حصل له رزق وطعم هذا الرزق يبدأ يأكله ويحس بالنعمة الإلهية في قلبه ، فذلك أدرك ما اسم الله « الرزاق » أحس به وذاقه وشعر بقيمة ومقام الرب الكريم الرزاق سبحانه وتعالى .
وبين إنسان مثلاً نسأله ونقول: إذا مرضت من يداويك؟ يقول : الله طبعا يشفيني ، وبين أحدهم مرض حقيقة وذهب للطبيب الأول لم ينتفع بدواءه ، وذهب للطبيب الثاني والثالث والرابع، حتى يئس وقنط ثم جاءه الفرج من الله وشافاه الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه ، هذا عندما تقول له : من هو الشافي؟ لا يقولها لك بلسانه ولكن يقولها لك بقلبه لأنه ذاق ، تذوق من هو الشافي حقيقة، هذه هي المعرفة .
الإرادة يلزمها العلم الله
والمؤمن الحق مطالب في تدينه بالأمرين معاً ، أن يعرف الله من خلال العلم ، « الكتاب والسنة » شرط أساسي حتى لا يضل في الخرافات والخزعبلات ، ثم يضيف إلى ذلك أن يذوق وأن يعرف وأن يسلُكَ إلى ربه وجدانيا ؛ لأن ثمار العلم إنما تقع بالقلب ، فإن لم تقع بالقلب فلا قيمة لها وذلك قوله عز وجل {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها}(محمد : 24) .
فالتدبر الذي قد يبدو عملية ذهنية إنما قيمته لما يعطي ثمارا قلبية ، ولا قيمة لتدبر لا يوقظ جِدوة الإيمان في القلب ، يصبح حينئذ شكلا بلا مضمون ، كالأعراب في إيمانهم ، {قالت الاعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم}(الحجرات : 14) أنتم أسلمتم ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبكم بعد ، ممكن أن يدخل بعد تذوقه ، إذا ذقته .
فالمؤمن الحق لابد أن يجمع بيّن الشريعة وواقعه ، فإنسان المشتغل بالنصوص فقط يتخشب قلبه ، يصبح قلبه مثل الخشبة ، جافاً ، خشناً ؛ لأن النصوص بدون تطبيق وِجداني ، وبدون تجربة قلبية لا تعطي شيئا، كمثل الحمار يحمل أسفارا ، وكثير من الناس يحفظون القنانطير المقنطرة من الكتب لا قيمة لهم ولا وزن لهم في الدين من حيث معاملاتهم ، لماذا؟ لأن المعاملة تأتي من لين القلوب ، من القلوب الرطبة ، إذا كان القلب رطبا ، تكون المعاملة رطبة ، فإذا كان يحفظ والقلب خشن متخشب إذن علمه وبالٌ عليه وحجة عليه لا له ، أما إن كان لا يتجاوز ما يحفظ حتى يتذوقه ويعمل به ويُصغِي إلى خطاب الله فيه {يا أيها الذين آمنوا} ويشعر أنه معني في نفسه لأنه فرد من { الذين آمنوا} فيستجيب لله ، يستجيب لما يحييه إذا دعاه إليه ربه الله ورسوله محمد ، فذلك مرجو له أن يجمع بين نصوص الشريعة وحقيقة التدين التي هي سلوك القلب إلى الله عز وجل .
الإرادة تذوق لحلاوة الإيـمـــان
إرادة الله التي تثبت العبد على توبته لا تكون إلا بتذوق ما الإيمان ، فيجب على الإنسان أن يتعلم كيف يتذوق الإيمان ، وذلك بمشاهدة آثار رحمة الله في نفسه وفي الخلق وفي الآفاق ، فإذا شاهد ذلك ذاقه حقاً ، وإذا ذاق أحب ، لأنك حينما تذوق الشيء تعرفه ، وإذا عرفته ووجدت حلاوته أحببته ، وحلاوة الإيمان التي يتحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا بعد التذوق، لأن الحلاوة ما هي؟
الحلاوة شعور وجداني ، وتجربة خاصة لا تتعدد ، معنى هذا الكلام أنه لا يمكن أن تعطي لأحد ما الحلاوة التي وجدتها أنت في الأمور المادية أو في الأمور المعنوية ، مستحيل .
لابد ليعرف ما الحلو وما درجة الحلو ، لابد له من أن يذوقه أيضاً ، لو أنك أردت أن تشرح ما العسل لشخص لم يذقه قط في حياته فإنك لن تستطيع ، تقول له : هذا هو العسل ، مصدره النحلة ، وإنه حلو ، اشرح له ما شئت ، لن يعرفه إلا في حالة واحدة ، وذلك يوم يتذوقه ، عندها فقط سيعرف ما هو مذاق العسل؟ قبل أن يذوقه يستحيل استحالة مطلقة أن يعرف ما العسل ، وسائر الأمور الذوقية ، الحلاوة والملوحة والمرارة ، كل الذوقيات لا يعرفها إلا من تذوقها لأن إسمها « الذوق » من هنا قالوا إن الذوق تجربة فردية يعني لا تتعدد لا يمكن أن أشرح لك الذوق ما هو ، كما قال الغزالي رحمه الله :
فكان ما كان مما لست أذكره
فظُنَّ خيرا ولا تسأل عن الخبر
في إشارته اللطيفة، يتحدث عن تجربته الدينية الوجدانية يقول لك هذه الأمور لا يمكن شرحها ، والذي يمكن شرحه هو الطريق إليها ، كيف تفعل حتى تذوق ، لا أقل ولا أكثر ، أما أن يعطيك الثمرة ، فمستحيل،
سِرْ أنت وبيديك اقطف الثمرة ، ابك على مولاك ، وتب إلى مولاك ، وحاول أن تتذوق معنى الإيمان بمولاك في نفسك وفي الحياة ، وبعد ذلك تدرك ما أسماءه الحسنى ، ما الرحمان ، وما الرحيم ، وما الملك ، وما القدوس، وما السلام ، وما المؤمن ، إلى آخر الأسماء ، سوف تدركها إدراكا وجدانيا ؛ لأن ديننا هكذا طبيعته في الدنيا وفي الآخرة .
الدين تجربة فردية قبل أن يكون جماعية ، فردية أولا ثم جماعية ثانيا ، ولكن فردية بالأساس كالموت ، لا يمكن أن يموت الناس بصورة واحدة ؛ لأن الله عز وجل قال في القرآن الكريم كل نفس ذائقة الموت ، فمادام أن الموت ذوق فلا يتعدد ، ولن يخبرك أحد كيف مات ، مستحيل ، ولو كانت الوسيلة واحدة ، ولو ماتا بطريقة واحدة ، كل واحد الله أعلم بسكرته ، ما حجمها ، وما شكلها ، وما حرها ، الله أعلم بما وجد ؛ لأن الموت شيء يُتلقى ، ويُحس بالإحساس ، فرُبَّ ميت في موته وهو يموت يجد ريح الجنة ، كما قال الصحابي الجليل الذي ضرب في الجهاد لصاحبه وهو يموت ، ومازال لم تكتمل موته : (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقل له إني أشم رائحة الجنة) .
خـــلاصــة
من هنا إذاً نخلص أن أساس "الإرادة" أن تعرف ، وأساس "المعرفة" أن تذوق ، إذا "ذقت" أحببت ؛ لأنك حينما تذوق نعماء ربك تحب ربك لأنه يُحبِّبُ خَلْقَهُ فيه بنعمائه القابلة للذوق ، وحينئذ إذا أحب الإنسان ملأ قلبه الشوق إلى مولاه ، فيسلك إليه ذُللا ، فرحا مسرورا ، يجد شوقاً يحدوه إليه ، لا يجد في ذلك لا مللاً ولا سأما ، فيثبت بإذن الله عز وجل على طريق الله مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
للإستماع هذا هو فيديو المحاضرة المفرغة فوق، وهو من ضمن سلسلة محاضرات ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي.
سلسلة محاضرات "منازل الإيمان"