منزلة الزهد من منازل الإيمان وهي موضوع اليوم، السلام عليك زائرنا مجالس الإخوة Majalis-Al-ikhwa يزيد بهاءها بمتابعتك لها. وبعد أن كنت معها "بمنزلة التوكل" سيكون مجلس اليوم مع "منزلة الزهد" المصاحبة للسالك إلى الله.
"الزهد" من منازل الإيمان
منزلة "الزهد" (1)من منازل الإيمان |
يقول شيخنا فريد الأنصاري رحمة الله عليه : أن "منزلة الزهد" من منازل الإيمان ، ولابد منها للعبد السالك إلى الله عز وجل إذا كان قد سلك عبر المراتب التي ذكرناها قبل مما فصل العلماء ، منطلقا من منزلة التوبة وصولا إلى منزلة الزهد .
فالسائر إذن الذي يرجو أن يصل مبكرا و حقيقة ينبغي أن يكون متخففا غير مثقل ، والتخفف المقصود هاهنا هو التخفف من الكسب الكثير ، وذلك هو "الزهد".
يقول شيخنا : أن المسلم الذي يريد أن يسير إلى ربه عابداً لا يُمكِنُه أن يستمر في سيره إذا كان مُثقلا بالأحمال ، وأن أخف السير هو سير المتخَفِّفِ من الأثقال من بني آدم وغير بني آدم حتى من دواب العصر من المراكب الأرضية والهوائية ، فكلما أثقَلْتَ على سيارتك الأحمال كلما أبطأَتْ سرعتُها وكذلك سائر المراكب ، وهذه سنة من سنن الله في الناس وفي الكون.
الــزهــد والفهم الخاطئ لمعناه
كثير من الناس يظنون الزهد هو لبس المرقعات ، وأن ننقطع عن أكل اللحوم و الطيبات من الرزق ، وما ذلك أبدا بزهد ، فمن فعل ذلك وقصده فقد خالف أمرَ الله بالقرآن حيث قال عز وجل :{كلوا من طيبات ما رزقناكم} .
فالأوامر في القرآن إما أن تفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة ، فما الزهد إذن إذا لم يكن أن نقلل من الطيبات من الرزق؟ لابد من بيان أن أفعال الإنسان تحكمها أحكام شرعية خمسة وهذا أمر مُجمع عليه بين العلماء ؛ الواجب والمندوب والمكروه والحرام ، ووسط ذلك كله المباح ،
الزهـد في الواجب والمحرم
وقد أجمع العلماء على أن ترك الحرام ليس زهداً ، فلا يمكن أبدا أن يقال: “فلان يزهد في شرب الخمر” والصواب أنه حرام عليه شُربَ الخمر ، وليس زهداً وتفضلا منه ، وإنما وجوبا ، فلا يسمى تارك الحرام زاهدا ، كما أن تارك الزنا وتارك الرِّبَا وتارك كل المحرَّمَات نصاً وقياسا لا يسمى زاهدا .
ولا يسمى أيضا تارك المكروه زاهداً ، لأن المكروهَ نُهي عنه ، والمكروه لا يكون مكروها إلا إذا نهى الشارعُ عنه، صحيح أن النهي عن المكروه ليس نهي حتمي ولكنه نهي على كل حال ، فمن استجاب للنهي فإنما ذلك من باب الطاعة المطلوبة .
فأن تترك المكروه أمر مطلوب ، لكن ليس طلب جزم ، وليس معنى ذلك أن عليك أن تقصد إلى المكروهات ، فمن قصد إلى المكروهات قصدا فقد خالف قصد الشارع إذن .
لأن الله سماه مكروها وإنما الفرق بين المكروه والحرام أنَّكَ إن وقعت في المكروه قيل لا حرج ، يعني ليس فيه عقوبة ، ولكنه نَهْيٌ عنه مع ذلك ، ولذلك قالوا يُلام فاعله ، ولو داوم الإنسان على المكروه لصار إلى الحرام حتما وهذا معروف .
إذن لا زُهْدَ في الحرام ولا زهد في المكروه وإنما هو امتثال ، فالاستجابة لترك الحرام والاستجابة لترك المكروه تسمى امتثالا لأمر الشارع ، وهو من باب قوله سمعنا وأطعنا .
أما الواجب فلا يمكن أبدا -لا بمنطق الشرع ولا بمنطق العقل- أن يُتَصور فيه زُهْد ، من زهد في الواجب فقد خَرِبَ دينه ، ولا يمكن أن يتصور ذلك في المندوب ، كيف يزهد الإنسان في المندوب؟ ! والمندوب مستحب أيضا فعله .
الزهد في المباح
بقي المباح، إذن لا زهد في المطلوبات ولا زهد في المنهيات، بقيت درجة الصِّفر المباح، الذي فعله كتركه، حيث قال العلماء في تعريف المباح : “إنه ما استوى طرفَاه فلا يُؤجر فاعله ولا يُوزر”.
يعني لا إثم ولا أجر في فعله، وأيضا لا أجر ولا وزر في تركه. ولو حصل أن الأَجْرَ في فعله لما بقي مباحاً لأن المباح ما استوى طرفاه، فكيف يكون فيه الأجر ونقول ما استوى طرفاه؟، فأين هذا الزهد إذن؟
قال العلماء إن المباح على ضربين، وهاهنا فعلا فصَّلَ علماء الأمة ممن تذوقوا نصوصَ القرآن ونصوص السنة النبوية بصدق وكشفوا عن مقاصدها بتوفيق من الله عز وجل فوجدوا – بالاستقراء والشواهد أيضا- أن المباحَ نوعان: مباحٌ صُرِّح بإباحته؛ {كلوا من طيبات ما رزقناكم} كإباحة الزواج “تناكحوا تناسلوا” وهذا أمر يفيد الإباحة.
وهكذا سائر المباحات التي صُرح فيها بالإباحة تصريحا، فكل مباح إذا صرح به فهو مباح مُخيَّر فيه، لك أن تفعله ولك أن تتركه، ولا يخيرك الله عز وجل إلا بين خيرين، لا يمكن أن يخيرك الله بين خير وشر، يخيرك بين خير وخير، أن تشرب كأسا من الماء الآن أو لا تشربه سواء.
ونوع من المباحات لم يُصرَّح بإباحته، لا تجد له ذِكراً لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن سُكِتَ عنه، وفي الحديث “وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها” سكوت الشارع عن أشياء لا يمكن أن يُفهم منه التحريم لأن الله لو أراد أن يحرم شيئاً حرَّمه نصّاً، ولا الكراهة لأن الكراهة أيضا تؤخذ بالنص أو بالقياس.
فسكوت الشارع عن بعض الأشياء يعني أنها مباحة لكن ليست من درجة المباح الآخَر الذي صُرِّحَ بإباحته تصريحا ((وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم)) وفي الحديث أيضا “أعظم الناس جُرما يوم القيامة رجل سأل عن مسألة فحُرِّمَت بسبب مسألته” .
وهذه النصوص تفيد أن المسكوت عنه في الشريعة ليس من نوع المباح المُصرَّح بإباحته، لأن هذا المُصَرَّح بإباحته هو خير، فَعَلتَه أو لم تفعله، أما هذا المسكوت عنه ففعله ليس كتركه بل تركه أولى، ولو كان في فعله خير لصَرَّحَ الشارع بإباحته ونبَّه إلى أنه نوع من المباح الموجود إن شئتم فادخلوا فيه، ولكن سكت عنه، ولو نطق لحرَّمه أو كَرِهَه، وإنما سكت لأن تحريمه قد لا يطيقه الناس، كما في الحديث، “رحمة بكم”، لأنه لو تكلم فيه لحرمه أو لنهى عنه نهي تحريم أو نهي كراهَة على الأقل، وبالمثال يتضح المقال.
لنمثل لهذين الأمرين من المباح: المباح الذي يقال فيه مخير فيه لا زُهْدَ فيه، فلا يجوز أن تزهد في المباح المصرح بإباحته، لا يليق بالمؤمن أن يقول أزهد في هذه المباحات، كيف تزهد فيها ورسول اللهﷺ لم يزهد فيها؟، أأنت خير من رسول الله ﷺ حتى تزهد في تلك المباحات؟
إذن ما فَعَل عليه الصلاة والسلام من الدخول في ذلك النوع من المباح إلا لتقتدي به أمَّتُه عليه الصلاة والسلام .
الـمـبـاح والضـروريـات الـخـمس
وأنواع المباحات المصرَّح بإباحتها يمكن إجمالها في كلمة أو كلمات هي :"ما يَخْدُم الضروريات الخمس" معروف أن شريعة الإسلام جاءت لبناء خمس ضروريات، الدين، النفس، العقل، النسل، المال، هذه خمسة أمور كل مباح يخدمها فهو مصرَّح بإباحته ، مطلوب أن يقتنيه الإنسان على أنه مباح .
الطعام والشراب مباح ، اللباس مباح ، وأكل الطيبات من الرزق جميعا مباح ، هذه أمور لو أن الإنسان أضْرَب عنها إضرابا ، مثلا إذا امتنع عن الطعام ، سيموت فيكون منتحرا .
إذن ترك المباح أدى إلى إهلاك النفس ، والنفس ضرورة من الضروريات ، {لا تقتلوا أنفسكم} وإذا هلَكَت النفس هَلَكَ الدين ؛ لأن الدين إنما يقُوم بالنفس ، كيف يكون الدين في الأرض إذا غاب الإنسان؟، إذن لابد من إحياء النفس ، فأن تأكل وتشرب أمر مباح .
ويجب أن تعرف بأن تركك لذلك المباح إن صار لك عادة فسيؤدي إلى خَرم هذه الضروريات الخمس ، وإلى نقض أصول الشريعة ، فيكون إذن هذا الفعل المباح مطلوبا .
ولا يجوز أن يقول شخص إني أزهد في الطعام والشراب ، بل إذا وسَّع الله عليك في الرزق فليأكل ، طبعا بغير إسراف ولا تبذير ليتقوى على طاعة الله ، ولتُظهِر آثار نعمة ربه عليه ، وليشكر الله عز وجل على ما أنعم عليه .
ولذلك كان الرسول ﷺ إذا وَجدَ أكلَ من اللحم لحم الكتف ، وأكل الثريد ، وإذا لم يجد لا تشتَعِل النارُ في بيته الشهر والشهرين ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح .
ويعيشون -أي آل البيت- على الأسودين الماء والذَّقَل شهرا وشهرين لا يجدون ما يأكلون ، يشربون الماء ويأكلون التمر الرديء ، لأنه لم يجد ، ولكن عندما يجد عليه الصلاة والسلام يأكل ما أنعم الله عليه به .
فإذن مثل هذه المباحات لا زهد فيها ، خاصة إن كان من المُوسرين الموَسَّع عليهم ، فزهده حينئذ يتحول إلى بُخل ، تجد الإنسان وقد وسع عليه الله عز وجل ونَعَّمَه وأكرمه ، ويُضْرِبُ مثلا على الفاكهة ولا يدخلها إلى بيته إطلاقا ، هذه من طيبات الرزق .
هذا الرجل يُدخِل على أهله الحَرَج ، وتصرفه يجعله لا يشكر نعمة الله حقا فينبغي أن يتناول ذلك الطيب من الرزق ولو من حين لآخر ، حتى يكون مُتَناوِلاً للمباح وقد وسع الله عليه في ذلك .
فما جعل اللَّهُ المباحَ مباحاً إلا لِتَدْخُل فيه وتتناولَه ، ولو كان الخير في تركه لحرَّمه أو على الأقل كرِهَه ، ما دام هذا المباح يخدم النفس ويخدم الدين .
ما لا يجوز الزهد فيه
ومن المباحات التي لا يجوز الزهد فيها الزواج مثلا ، فلو أن فردا من الأمة لم يتزوج إطلاقا في حياته كلها، فإن ذلك لا يزيد ولا ينقص من الأمة شيئا ، ولكن لو أجمع مثلا المغاربة كلهم على ترك الزواج ، بعد مائة سنة لن يبق مغربي على وجه الأرض ، فإذا لم يبقى الناس في الأرض انعدمت النفس وانعدم الدين ؛ لأن الدين إنما هو بمن يتدين ؛ ومن هنا لا يجوز إطلاق فتوى عامة بتحديد النسل ، مع أنه يمكن في نازلة لفلان أو لفلانة، لحالة خاصة طبية معلومة ، أما للعموم هكذا على الإطلاق فهذا يخالف مقاصد الشريعة التي تسعى إلى الإكثار من النسل وإقامة الدين ، لأن بالإنسان يكون الدين ، من هنا إذن يصبح الزواج مباحاً ، لكنه في المقاصد يؤدي إلى إقامة الدين وإقامة النسل ، واستمرار النوع البشري ، فهذا الأمر لا يُزهَد فيه ، ولا أجر في ترك الزواج ، ولا في ترك الطعام والشراب من المباحات إطلاقا ، وحديث أمنا عائشة رضي الله عنها: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته فلما أُخبِروا كأنهم تقالوها ، أحدهم قال: أما أنا فلا أتزوج النساء"، وقفت عند هذا الشاهد الذي يهمناي، لأن النبي ﷺ أنكَر عليه ذلك ، وقال: وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وأيضا أنكر على من قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، قال: وأصوم وأفطر -هذا النبي ﷺ يرد عليهم-:( أما وإني أعبدكم لله وأتقاكم له) فالعبادة الحق والتقوى الحق إنما هي إتيان ما أحل الله . من أراد أن يكون عابداً لله حقيقة عندما يجد المباح يلزمه أن يتناوله .
ثم قد يقع من ترك المباح أن تصاب الأمة بتضليل كما وقع في التاريخ ، كم من أحد انقطع عن أكل اللحم فظن جهلة الناس أن اللحم مكروه وانقطعوا عنه وقد وقع لبعض المتفلسفة في الزمن السابق حتى صاروا نباتيين لا يأكلون إلا النباتات لا يأكلون اللحم ومشتقات اللحم وهذا خطير ؛ لأن هذا تشريع مضاد للشريعة {يا أيها النبيء لم تحرم ما أحل الله لك} {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} .
إذن تحريم المباح لا يقل خطورة عن إباحة الحرام ، من قال: إن المباح حرام أو مكروه مثل من قال: الخمر حلال ، مثل من قال لك اللحم حرام ، لأن تحريم المباح كإباحة الخمر وهذا خطير ، لأنه افتآت واستدراك على الله الذي أباحه ، فبأي حق تأتي لتحرمه بعده ، صحيح أنت لن تحرمه بلسانك ، ولكن تحرمه بسلوكك ، إذا كان عندك ولم تأكله قصدا ، يعني أنك تزهد فيه ، فعليك وزر وليس لك أجر ، لأنك تفتئت على الشارع ، هذا لا يجوز ، إذن كل مباح -يخدم الضروريات الخمس- المقصد منه يؤدي إلى خدمة الدين ، ولو من بعيد ، وخدمة النفس و النسل ليتكاثر الأبناء والأسرة والتربية، وخدمة المال التجاري كل ذلك مباح لا يجوز للإنسان أن يزهد فيه ، كأحد الناس يزهد في العمل ، يقول أنا زاهد وجالس في الظل ، هذا متواكل ، ووزره أكثر من أجره ، بل لا أجر له .
ففيما الزهد إذن؟
فالزهد إذا يكون في المباح المسكوت عنه ، الذي لم يتكلم عنه الشارع ، لأن كل هذه الأشياء التي تخدم هذه الضروريات الخمس تكلم عنها الشارع إباحة في القرآن أو في السنة وكانت من سلوك النبي ﷺ ، الأسوة الحسنة والقدوة الرفيعة .
هذه المباحات منها ما هو منصوص عليه ومنها ما يُفهَم بالقياس ، إذا ركب ﷺ الجمل فنحن نركب السيارة مثلا أو الطائرة ، يُفهَم بالقياس وهكذا…
والآيات العامة فيها عموم ، وهي شاملة لكل المباحات إلى قيام الساعة فكل الطيبات من الفواكه التي لم تكن في زمان رسول الله ﷺ ، فواكه حديثة تظهر في زماننا الآن تدخل كلها في قوله عز وجل: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وطيبات الرزق قالوا: “هي الأشياء الزائدة عن الضرورة من المتع”، الأشياء الزائدة عن الحد الضروري وهي التفكه بالنعم مما أنعم الله به على العباد .
وفي الحديث: أن أحد الصحابة خشي أن يكون من المتكبرين، فقال: يا رسول الله: “إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة”، فقال له النبي ﷺ : ((إن الله جميل يحب الجمال))(رواه مسلم).
فكل ما يتجمل به الإنسان من طيب اللباس وطيب المركب وطيب المسكن كل ذلك من المباح الذي لا يجوز الزهد فيه ، بل إن نوى الإنسان أن يعبد الله به تحول من مباح إلى مندوب في الأجر ، أو إلى واجب في بعض الأحيان من حيث الأجر ، الأجر الذي يعطيك الله في بعض المباحات كالأجر الذي يعطيك إياه على بعض المندوبات أو في بعض الأحيان على بعض الواجبات أيضا . وسنتابع معك أيها الزائر الكريم تنزيل محاضرة منزلة الزهد لشيخنا المرحوم الدكتور فريد الأنصاري بالجزء التاني فهيا بنا🏃♂️🏃♀️زائرنا .
وللإستماع هذا هو فيديو المحاضرة المفرغة فوق، وهو من ضمن سلسلة محاضرات ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي.
سلسلة محاضرات "منازل الإيمان"