منزلة الزهد من منازل الإيمان وهي موضوع اليوم، السلام عليك زائرنا مجالس الإخوة Majalis-Al-ikhwa يزيد بهاءها بمتابعتك لها. وبعد أن كنت معها بالجزء الأول "لمنزلة الزهد" سيكون مجلس اليوم مع الجزء التاني"لمنزلة الزهد" المصاحبة للسالك إلى الله.
منزلة "الزهد" (2)من منازل الإيمان |
الزهد في المباح المسكوت عنه
الزهد إذا في المباح المسكوت عنه ، يقول شيخنا : فإذن ماتعريف المسكوت عنه؟ المسكوت عنه في الشريعة إنما يُقال لِمَا كانَ عامَّ البَلْوَى في زمان الرسالة ولم ينزل فيه نص.
ولكن لا يأتي أحد ليقول لنا إن الشاي من المسكوت عنه يلزمنا أن نزهد فيه ! هذا لا يقال ، لأن الشاي لم يكن في زمن النبيﷺ ، ولا يُسمى الشيء مسكوتا عنه حتى يكون في الزمن النبوي ولم تتكلم عليه السنة لا سلبا ولا إيجابا ، فيقال حينها هذا كان في حياة النبيﷺ ولم يتكلم عنه القرآن ولم يرد في السنة ، هذا هو المسكوت عنه .
فالله بكل شيء عليم سبحانه وتعالى ، فإذن أَمَا وقد عَلِمَه الله ولم يوحِ فيه شيئا لا بالكتاب ولا بالسنة فمعناه أنه قد سكت عنه ، لم يُرد أن يتكلم عنه ، لأنه لو تكلم عنه لحرمه ، لأنه لم يصلح وسكت عنه.
تركه من المباح ، ولكن من المباح المسكوت عنه . إذا فعلته لا يوجد بأس ، وإذا لم تفعله أحْسَن ؛ لأن ذلك النوع الآخر من المباح إذا فعلته أحسن ، فقد تكلم عنه ولم يسكت .
كإباحة الزواج ، وإباحة الطعام والشراب وإباحة اللباس وكل المباحات في قوله عزوجل :{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسوَّمة والانعام والحرث}.
الزواج مباح والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة (يعني المال بصفة عامة) والخيل المسومة (الكسب من سائر الحيوان) والأنعام والحرث ، كل ذلك متاع الحياة الدنيا .
إذن هذه أصول وكليات المباحات ، فاللباس أُشِيرَ إليه في الأنعام ، لأننا من أصوافها وأوبارها نلبس ، وسائر أمور الإنسان التي يحتاجها تُستَخلَصُ من هذه الأصول ، فصَرَّحَ بها الشارع ، تكلم عنها الله عز وجل في القرآن وفصَّلتها السنة .
ولكن نوع المباحات التي يلزمنا الزهد فيها لم يتكلم عنها القرآن الكريم ولا السنة النبوية ، سكت عنها ، لأنه لو نطق بها لحرمها ، ولكن سكت عنها رحمة بنا ، كما في الحديث فلا تسألوا عنها ، فإذن لا تسألوا عنها وبقيت في المباح ، لأنه لو تكلم لوجدنا النص.
المباح المسكوت عنه كالغناء
مثال ذلك الغناء ، هذا الذي اختلف عليه العلماء قديما الغناء من عموم البلوى في زمان الرسالة ، فما معنى من عموم البلوى؟
العرب قبل الإسلام أمة مُغَنِّيَة ، معروف أنهم كان لهم صناعة واحدة في العلوم والفنون هي الشعر ، وشعر العرب غنائي ، وكان الأعشى يسمى (صناجةَ العرب) ، يعني (كمانجة أو كنبري العرب) أو الكمان بلغة العصر ، لإنشاده شعره ولأن العرب كانت تتغنى في أفراحها وفي أحزانها .
فلا يمكن أن يقال إن محمدا ﷺ كان لا يعرف الغناء ، أبدا بل يعلم به ، وثبت في السيرة أنه مرة وهو في طفولته ﷺ ذهب إلى حفل لقريش وترك الغنم عند من يعتني بها ، وبمجرد الشروع في الغناء سلط عليه الله النعاس ولم يستيقظ إلا على أشعة الشمس ، فلم ير شيئا .
ما ثبت ولو مرة واحدة أن النبي ﷺ استمع فِعلاً بقصدٍ، وجلس في محاضر الغناء وفي مجامع الغناء ، ولكن لا يوجد نص واحد في القرآن يُحَرِّمُ الغناء إطلاقا ، ستقولون "لهو الحديث" ، قيل هذا الكلام منذ القديم وكل الأسانيد التي أُسنِد فيها ذلك لابن عباس في قوله الغناء وفي قوله الطبل كلها ضعيفة ، وقد ضعَّفَها ابن حزم منذ القديم .
ثم بعد ذلك عندنا قاعدة من قواعد التشريع ، إذا أراد الله عز وجل أن يُحرِّم شيئا حرمه باسمه لا يكني عليه ، أراد أن يحرم الخنزير فقال: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} -سماه باسمه-.
وهذا عجيب يجب أن نتأمله ، الله عز وجل أراد أن يحرم الخنزير ولو لم يعرفه العرب ، أغلب العرب يومئذ لم يروا الخنزير حتى بأعينهم ، وحرمه لأنه أراد أن يحرمه ، فإذا أراد فقد أراد : {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} .
ثم لأن الله يعلم وهو العليم الخبير أن الأمة الإسلامية ستمتد إلى بلاد الماء كالمغرب والأندلس ، وإلى بلاد أوروبا ، كما كانت قبل ممتدة حتى بلاد البلقان حيث يعيش الخنزير بكثرة ، وسيأكل المسلمون الخنزير وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا ﷺ رسول الله ، فحرمه على من سيأتي ، صحيح حرَّمَه حتى على السابقين طبعاً ، ولكن العبرة بالنص عموم الأمة في الزمان المستقبل والزمان الحاضر.
فحالة الغناء مثلا حالة المسكوت عنه : علم الله عز وجل أن العرب أمة مُغَنِّيَة ، وهي كذلك في جاهليتها وممن لم يُسلِم في زمان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، وكذلك ستبقى إلى يومنا هذا ، لا زال العرب إلى الآن أهل طرب ، وهذا مشهود مسموع حيث ما ذهبت .
كل ما حرمه الله فقد نص على حرمته : فما حرمه الله حرمه بنص قرآني ، أراد تحريم الخمر فنص عليه ، وأراد تحريم الخنزير فنص عليه ، وأراد تحريم الدم فنص عليه ، وأراد تحريم الميتة فنص عليها ، وأصناف أنواع الميتة من النطيحة والمتردية إلى آخره كل شيء فنص عليه ، وأراد أن يحرم زواج الأمهات فنص عليه ، {حرمت عليكم أمهاتكم} ، وما شابه ذلك وما قيس عليه .
فكيف يقال إنه لم يحرم الغناء وهو حرام؟ فأحد أمرين، إما أنه سبحانه لاعلم له به ، وهذا مستحيل ، أو أنه لم يرد تحريمه ، والاحتمال الثالث غير موجود ، لو أراد أن يحرمه لحرمه نصا ، لأنه ليس شيئا صغيرا لا يظهر ، إنه الغناء ، ولو حرَّمَه لدخل الناس أجمعون جهنم.
مجرد خروجك من بيتك يصب على أذنيك صبا ، فأين تذهب؟ إنه أمر لا يُطاق ، تحريم الغناء لا يطاق ، والله عز وجل رفع عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على من قبلهم ، فتحريم الغناء فيه حرج على الناس ، ثم بعد ذلك هو فطرة في الإنسان ، الإنسان من فطرته أن يتغنى ، ولكن لم أقل إنه مباح وإنما أقول ليس بحرام فقط ، هذا سكت عنه .
والعرب لا تعرف الخنزير ، الخنزير وهو حيوان لا يعيش في الصحراء ، يعيش في البلاد الغابوية الرطبة الندية ، أما الصحراء ليس لديه فيها ما يأكله ، الصحراء تعيش فيها الضباع والسباع والحيوانات الأخرى الصحراوية المعروفة .
عـــدم وجود نص يحــرم الغـنـاء
ومن يبحث في الأحاديث النبوية يجد حديث البخاري فقط، "يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الحرام والحرير والخمر والمعازف"هذا كل ما يجدون .
قبل أن نفصل هذا الحديث هل يكون الغناء حرام وتبحث في القرآن كاملا لا تجد له آية صريحة باسمه وتبحث في السنة وما أدراك ما السنة ، آلاف الأحاديث في البخاري وفي مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود والمسانيد بعد ذلك ، آلاف الأحاديث فلا تجد إلا هذا الحديث وحده .
النبي ﷺ نهاه الله عز وجل في الميتة والخنزير والدم وهو صلى الله عليه وسلم زاد في هذه المطعومات، نهى عن كل ذي مخلب من الطير ، وهي الطيور التي تأكل اللحم مثل الأحدية ، الحدأة ، النسر ، والغراب والصقر، نهى عنها النبي ﷺ فدار النهي بين التحريم والكره ،وكل ذي ناب من السباع من القط حتى الأسد ، مروراً طبعا بالكلب وبالذئب إلى آخره . كل وحش يأكل اللحم ، وذوات السموم الحية وما شابهها كل ذلك نهى عنه النبي ﷺ .
والأحاديث في هذا الأمر كثير ، ونهى عن الحُمر الأهلية ، يعني الحمير والبغال والأحاديث أيضا في هذا كثير ، فكيف بالغناء الذي وجدنا فيه حديثا واحدا؟
رد شبهة من يتمسكون بتحريم الغناء
هذا منطق التشريع وأصول التشريع ، ثم بعد ذلك نجيء إلى صيغة الحديث “يستحلون” وهذه اللفظة هي التي يعتمدها الذين يحرمون بالنص ، فما معنى يستحلون؟ يعني يجعلونها حلالا ، الألف والسين والتاء للطلب وللتحويل أيضا ، استنسر تحول نسرا واستنوق الجمل ، تحول ناقة ، يستعملونه في الكناية على الرجل يصبح ضعيفا ، فإذن الألف والسين والتاء عندها معان من بينها الطلب ومن بينها التحويل أو التحول. فيستحل يحول الحرام إلى حلال ، هذا ماذا يفهم منه؟ يسميه العلماء مفهوم المخالفة .
معنى الكلام أنه من يأتي ويقول أن هذه حلال وهي حرام ، أي سبق النص بتحريمها ، في الزنى تجد النص الذي حرمها ، قال تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} ، فإذا قال أحد يستحل الزنى ، يُفهم منه أنه جعله حلالا وقد سبق تحريمه ، ويستحل الخمر ، نعم يستحل الخمر لأنه سبق تحريمه {إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} ، والحرير سبق تحريمه على الرجال هو والذهب ، قال ﷺ : (الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها ) أخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه بسند صحيح .
فكل ما ذُكر في هذا الحديث سبق تحريمه بالنص فإذا جاء أحد يستحله أراد أن يحوله إلى حلال ، فإذن ما النص الذي سبق تحريم الغناء به؟ لا تجده ، لو أجده أنا أو تجده أنت ، لوجده العلماء من زمان ، العلماء الذين اجتهدوا كي يحرموا الغناء ، ولم يجدوه .
دلالة ترك النبي ﷺ وصحابته للغناء : ولكن نتجه إلى الجهة الأخرى لو كان الغناء مباحا حقا والنبيﷺ شجع الصحابة على إتيان المباحات ، والله عز وجل نهى النبي ﷺ عن ترك الحلال :{يا أيها النبيء لم تحرم ما أحل الله لك}، لماذا النبي ﷺ لم يغن قط؟ ولا قصد سماع الغناء؟ لماذا لم يثبت في حديث أن صحابياً تناول مزمارا يزمر به؟ أو ماسكا بكمان يلهو به؟ ولا حديث ، إذن هناك شيء في هذا !
الزهد هنا بالمسكوت عنه
هذا هو المسكوت عنه، لا تجده هنا ولا تجده هناك ، فإذن مثل هذا الذي يقال فيه الزهد ، هنا تزهد ، في مثل هذا ، فتركه خير من فعله ، ولو تكلم الله فيه لحرَّمه ، وإنما عفا وسمح لنا ، لأنه لو لم يعف لدخل أغلب الناس النار ، لأن هذا مما يصعب تركه ، تحرص كثيرا ولكن في لحظة من اللحظات تجد نفسك وأنت تغني لوحدك ، هكذا يقع لنا جميعاً .
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن رسول الله ﷺقال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها))(حديث حسن رواه الدارقطني وغيره)، والعفو هو المسكوت عنه ، والمؤمن الصالح الورع حقا يزهد في مثل هذا ، لأنه لا يليق بالمسلم الصالح التقي الورع أن يمسك آلة موسيقية ، غير معقول ، ولو فعله عالم لسقطت مروءته . تصوروا مثلا فقيها من الفقهاء الذين تعرفون ممسكا بآلة من هذه الآلات ، لن يسمع لكلامه أحد، تسقط مروءته ، لن تبقى له قيمة عند الناس ، وعبر التاريخ إذن لماذا لم تبق له قيمة عند الناس؟ في النفس من الغناء شيء ، يعني الناس يعجبهم الغناء ولكن ليس بشيء جيد ، حرفة سيئة .
ثم هو بعد ذلك كما قال ابن القيم رحمه الله محلل النفس ، فالغناء يُفسد القلب ، وإذا فسد القلب هـاج في النفاق . ودليله الاستقراء من التاريخ ومن الواقع ، ما اجتمع الغناء في قوم إلا كانت فيهم مصيبتان ، أينما وجدت بيئة أهل الفن في المغرب ، في المشرق ، في الصين ، في اليابان ، في أمريكا ، في أي بلاد ، وفي التاريخ ، من زمان ، من يوم أن عرف الإنسان آلة الطرب ، أينما وجدت أهل الفن تجد فيهم آفتان ، الزنى والخمر، وأعطني الدليل المعاكس .
أغلب من يموت منهم بأمراض قاتلة ترجع إما للزنى أو للخمر والمخدرات ، سببهم الطرب ، اليوم وغدا تفسد النفس ، إن سمعته مرة ، يقال لك لا حرج ، إن الله غفور رحيم ، ولكن إن صار لك عادة تلك هي المصيبة .
فالزهد في مثل هذا مطلوب هذا يُزهَد فيه ومأجور تاركه إن شاء الله ، فإذن أن تقول حرام فهذا أمر خطير ، وأن تقول حلال مائة في المائة فهذا أمر أخطر ، فهو إذن مسكوت عنه ، معفو عنه من قبيل المباح ، ولكنه المباح المسكوت عنه وليس المباح المصرح بإباحته ، فتركه إذن خير من فعله ، لأنه لا يخدم الضروريات الخمس بل يهدمها .
إنه ليس من نوع المباح المصرح بإباحته، الذي صرح الله عز وجل بإباحته في القرآن والسنة يخدم الدين ويخدم النفس الإنسانية ويخدم النسل ويخدم المال ويخدم سائر الضروريات كما بينا في الزواج والشراب والطعام واللباس والتمتع بالطيبات من الرزق .
الزهد بالمسكوت عنه الهادم للضروريات
فالغناء إذن يمكن أن يكون بل إنه من المباح المسكوت عنه الذي يهدم تلك الضروريات ، المباح الذي سكت عنه الله عز وجل لم يتكلم فيه ، يهدم الضروريات الخمس .
ها نحن مثلنا بالغناء ، من داوم عليه سوف يُخرِّبُ دينَه ، ويخرب النفس ، ويخرب النسل ، ويخرب الحياة ، لأنه يؤدي إلى تحلل الإنسان من التكاليف ، ثم تصيبه الآفتان الزنا والخمر .
ولا يقولن أحد إني أعرف فنانا واحدا ليس به زنى وليس به خمر ، كم نسبته؟ واحد في المليون ، لا عبرة به ، لأن الشريعة جاءت للأغلب و للعموم ، والشاذ لا حُكم له .
ليس قصدنا هنا أن نبين حكم الشرع في الغناء ، لا أبدا، وإنما القصد أن نتكلم عن معنى الزهد ، فإذن الزهد لا يجوز أن تستعمله في الواجبات ولا في المندوبات لأنك مطالب بإتيانها ، ولا في المكروهات والمُحَرَّمَات ، لأنها رغما عنك يلزمك الزهد فيها ، ولا في المباحات المصرح بإباحتها ، بل تناولها بالقدر الشرعي واشكر الله على نعمه .
إنما العبد مطالب أن يزهد فيما سكت عنه الشارع ، في ما ينقض الدين ، فيما يَهدِم الإسلام مما لا نص فيه ، مثل هذا يزهد فيه الإنسان ، ويُقاسُ على ذلك أشياء كثيرة .
كما أنه من الزهد ما كان مباحا بالجزء حراما بالكل : نعطي مثالا ، شيء مباح لكن عندما يأتي في طريق الحرام يصبح في بعض الأحيان- مباحا مسكوتاً عنه ، تَرْكُه أوْلا وخير من فعله ، مثلاً شُرْبُ الماء ، شرب الماء، لا يوجد بأس ، هذا مباح مُصَرَّحٌ بإباحته ، فالنبي ﷺ كان يحب الماء البائت ، كما هو ثابت في السنة الصحيحة وفي الشمائل ، كان يترك الماء يبيت في آنية حتى الغد ثم يشربه ، على كل حال الماء من الطيبات ، بل من أصول الطبيات والضروريات ، {وجعلنا من الماء كل شيء حي} ولكن وأنت ذاهب في الطريق ووجدت خمَّارة ، (حانة ) وقلت لصاحبها أعطني شربة ماء مباح ، لا أحد يقدر أن يقول لك حرام ، تشرب الماء، عَطشتَ وشربت الماء عند صاحب المقهى ولو أنه يبيع الخمر مباح ، فالكأس نقي وشربت الماء الذي أحله الله ، ولكن إذا شربته اليوم وغدا وبعد غد في ذلك المكان ، فصار تناول هذا المباح في ذلك المكان مرتبطا بالمكان ، والمكان مكان منكر ، فيحصل تطبيع نفسي مع المنكر ، فلا يُؤمَن عليك أن تشرب في يوم ما الخمر ، ولذلك مثل هذا المباح معفو عنه ، فهو مباح بالجزء ، حرام بالكل ، لا يجب أن تكون عندك عادة ، فمثل هذا يزهد فيه ، ماؤه مثل حرامه ، ولو أنه ليس بحرام تقول مثل حرامه ، هذا زُهدٌ مأجور عليه بإذن الله.
وكذلك من خالط مالَه مالٌ حرام ، مالُه مشبوه فيه الحلال ، تعرف فيه الحلال ولكنه مختلط ، الزهد في مثل هذا زهد مقبول مأجور إن شاء الله ، ابتعد عنه، وابحث عن من له مال طيب ، وهذا الذي سماه النبي عليه الصلاة والسلام المُشتبِهات،"وبينهن أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" .
فإذن الزهد يكون في ما اشتبه وفي ما تشابه وفيما كان وسيلة ولو من بُعد إلى الحرام أو إلى المكروه فيزهد فيه الإنسان، وسنتابع بعون الله جلستنا بالمقال الثالث والمتمم لمحاضرة شيخنا فريد الأنصاري في موضوع الزهد فهيا بنا 🏃♂️🏃♀️زائرنا.
وللإستماع هذا هو فيديو المحاضرة المفرغة فوق، وهو من ضمن سلسلة محاضرات ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي.