القصة الأمازيغية الأولى، السلام عليك زائرنا الكريم مدونتك مجالس الإخوة Majalis-Al-ikhwa يزيد بهاءها بمتابعتك لها، وبعد أن كنت معها بمقال عن الإرث القصصي الأمازيغي سيكون مجلسنا اليوم مع سلسلتنا القصصية الأمازيغية ومع قصتنا الأولى"طمع وغدر" والمصاغة ترجمتها باللغة العربية، فمرحبا بك.
القصص الأمازيغي لجدي
القصص الأمازيغي لجدي، هي سلسلة قصصية لمجموعة قصص قصيرة مما يزخر به التراث القصصي الثقافي الأمازيغي للجنوب الشرقي المغربي مع مزيج من خيال الراوي.
يقول الراوي أنها قصص لجده مازالت عالقة بذاكرته، أحب أن يوثقها للذكرى وذلك بترجمتها وصياغتها باللغة العربية.
نتمنى أن تنال إعجابك وتستأنس بها زائرنا، و تؤنس بها من حواليك، فهي من روائح الزمن الجميل لشعب ربما تكون ثقافته جديدة عليك، لكنها مؤكد سيكون لها وقع بنفسك وستجد لها نفحات جمالية شبيهة لما عندك من قصص أجدادك التي أغنت طفولتك يوما.
القصص الأمازيغي وبداياتي معه
يقول الراوي: كانت بداية إكتشافي لعالم القصص الأمازيغي، يوم سألت أبي مالذي سيسعد شيخا بسن الثمانين، فانا أريد إسعاد جدي الذي إنتقل للعيش معنا وكان كل همي أن أزيل الكآبة من على وجهه وتنتعش روحه من جديد .
أجابني أبي وقتها أن جدي حزين لفراق بيته وبلدته، ومؤكد ليس هناك مايسعده بعدهما ولهذا فمن المستحيل أن يسترد سعادته التي فقدها .
لكنني قلت لأبي: (ألم تخبرني يوما حين سألتك عن جدتي وطفولتك ، وهل كانت تقرأ لك قصصا قبل نومك ، مثلما كان الحال معي أنا وأمي ؟ أجبتني أن أجدادي كانوا أميون ، وبزمانكم القصص يقصها شفهيا الرجال لأنهم هم من يسافر للتجارة ، ويتعرفون على أناس جدد وتصادفهم حكايات متنوعة.
وقلت لي: إن الأمهات أو الجدات مجرد مستمعات ، ولا يتجرأن بحكاية القصص إلا بغياب الأباء والأجداد .
وقلت أن جدك كان يسعدك بحكاياته المثيرة والغريبة ويسعد هو بالتالي لسعادتك ، وكنت أنت حينها تتخيل الشخصيات رغم عدم رؤيتك لصور لها مثلما نراها نحن مصورة بقصصنا هذه؟) .
أجابني بنعم، قلت :(فإذا قد علمت ماسيسعد جدي! سأطالبه بأن يحكي لي من قصصكم الأمازيغية القديمة)، استغرب أبي مني ذلك وقال أنني لن أتحمل الإستماع.
فقد سبق وجرب هو يوما أن يحكي لي حكاية ففشل في إقناعي بالإستماع. وأخبرته حينها أنني لا أستمتع بالقصص الشفهية وكان شرطي لأستمع أن يقرأ لي من قصص مكتبتي الصغيرة، فهي قصص مليئة بصور لشخصيات الحكاية.
لكني قاطعته قائلا :( كان ذلك معك أنت، أما والحال مع جدي فالأمر يختلف، فهو عجوز و مكتئب ولإسعاده سأصبر وأتحمل الإستماع ).
وفعلا طالبت جدي بذلك، وأحسسته فرح لطلبي وأخذ يفكر ويفكر، ثم سألني مبتهجا :(ألم يقص عليك أبوك قصة الطمع والخبث والغدر بالروح الغالية؟) قلت متحمسا : (لا، لم يسبق لأبي أن قص علي من قصصكم شيئا!).
فرح جدي وقال:(جميل إذا، فأنا سأسليك بالكثير من قصصنا الأمازيغي! وقصتنا الأولى ستكون عن الغدر بزمن المعجزات، موعدنا ليلا بعد العشاء).
فاستغربت ذلك منه ، فأنا متشوق للإستماع !! لكن جدي قال أنه عندنا نحن "الأمازيغ" ، لا نقص القصص نهارا ، لأنه يقال هي مجلبة للسوء ، ولا نقصها لبعضنا إلا ليلا .
وأحسسته كاد أن يطير فرحا ، فقد أحس أنه عنده مايعطي ! فقد أشرق وجهه حين أخبرته أن أبي لم يحكى لي قبلا أي شيء مما عندهم من قصص ، وفرح لعلمه أن قصصه حصرية ولن تكون إجترارا وحتما ستكون مسلية لي .
و سبحان الله! كم طالت ساعات ذلك النهار ، حتى حسبتها لن تنتهي ، بل وحسبت النهار صار نهارين ، أو كأنه نهار بلا ليل .
وحل المساء وأنا متشوق لأولى قصص جدي ، وما أن أكمل عشاءه حتى صحت به : (هيا ياجدي ماالطمع وماالغدر ؟ وماالنذالة وماالخبث ، ومامعجزات الروح الغالية؟؟ ) .
القصة الأمازيغية : طمع وغدر
فقال ضاحكا : (يحكى أنه كان بأيام زمان صديقان يسافران معا للتجارة على دابتيهما ، ويغيبان عن أهلهما شهورا بين الذهاب والإياب ، وكانا قد تعاهدا على الصدق والإخلاص)...
قال جدي أنهما كانا يساهمان بقدر متساوي من المال في كل مايخص تنقلهما وأكلهما، وينطلقان بتجارتهما بحماس و همة، متنقلين بين المدن والقرى.
قال جدي أنهما يشتريان من الشرقية ويبيعان لها مااشتروه من الغربية، ليبيعان للغربية بعدها مااشتروه من الجنوبية وهكذا؛ هنا وهناك .
وكانت رحلتهم التجارية لمدة تسعة أشهر ، لتكون عودتهما بنهاية فصل الخريف و بداية فصل الشتاء ؛ ولقسوة هذا الأخير ، يفضلان أن يعيشاه مع أهاليهما ، لينطلقا من جديد مع بداية الربيع ، وكان هذا حالهما لسنوات عدة .
وكانت لهما عادة الإستحمام بنهر على مقربة من بلدتهما حين العودة ، حيث هناك يحلقان لبعضهما البعض شعر رأسيهما ، ويقتسمان المال الذي جمعاه بتجارتهما ، حيث لم يتبقى على وصولهما إلا مسيرة يوم ، بمدخل البلدة سيفترقا ويتجه كل منهما سعيدا لأهله .
طمع وغدر ، ووسوسة شيطان
لكن بهذه الرحلة الأخيرة تمكن إبليس اللعين بالخبيث منهما، فلما جاء دوره ليحلق شعر صديقه الطيب، لف دراعه حول عنقه بإحكام، ثم مازحه قائلا : ( لو أنني الأن قضيت عليك بهذه الموسة ؟ فلا أحد معنا، ويكون لي وحدي كل ماجمعناه من مال، وأستقر بالبلدة وأرتاح من أسفارنا المتكررة المتعبة).
فأجابه الطيب والغصة بحلقه؛ من هول الصدمة : (طبعا يمكنك ذلك ! فانا بين يديك ولا أحد معنا إلا الله! أمن أجل المال تظلم نفسك ؟ لكنه ياأخي الطمع ! عمى بصيرتك، وسبحان الله ! سبق وأخبرتك مرارا أنه قاتلك لا محال يوما ! لكن لاتنسى الملك الأكبر ! حتما ولابد سيخبر الملك الأصغر ، والأصغر سيأخذ بثأري منك بتدبير من الأكبر وهو لا يعلم!) .
ثم مسح دمعته التي لم يعد يقوى على إخفائها، وأكمل قائلا: (ولا عليك، لن أحاول أن أتملص من بين يديك، ووالله لن أقوم من جلستي هذه، مادامت نفسك هانت عليك، وهانت عليك عشرتنا طوال هذه السنين فلا تتردد)، ضحك الخبيث إستخفافا، وأسرع بجر الموسة حول عنق الطيب، وحفر قبرا ودفنه هناك، وانطلق مطمئنا.
غدر ونذالة وخبث بشري
وعلى مشارف قريتهما، جهز نفسيته بخبث بشري لعين، ودخل قريته مغتما حزينا، وسمع بوصوله أبناء صديقه، وجاءوه مسرعين يتساءلون عن غياب أبيهم؟! أخبرهم متباكيا أنه أصابته بأول سفرتهم وعكة شديدة؛ توفى على إثرها؛ وأنه مما وقع تعب بسفره هذا غير كل الأسفار السابقة؛ من حزنه على صديقه ومن مشقة الإتجار وحيدا ببلاد الأغراب.
ولأنهما كانا يعتبران أعز الأصدقاء، صدقوه وأقاموا عزاء لأبيهم وبكوه وبكى معهم، وتلقى معهم تعازي أهل القرية ثم نسوه وعادوا لحياتهم مثل كل بني البشر.
بعد شهر من وصوله حل فصل الشتاء؛ وتوالت الأمطار، وما أن أطلت الشمس، حتى تذكر قبر صديقه، و قال مع نفسه مؤكد ستكون التربة انجرفت عنه، فلابد وأن أزوره لأطمئن، أن يتعرى ويكتشفوه الرعاة أو مسافر من الجوار، وفعلا أخبر أهله أنه سيغيب ليوم من أجل زيارة صديق مريض بالقرى المجاورة.
الروح الغالية عند الله
وما أن وصل مكان القبر، حتى تفاجئ مما أمامه ! إنها كرمة نابتة على القبر، وفيها عناقيد عنب غاية بالجمال من الأبيض والأسود والأحمر، تتمايل بها الريح يمينا ويسارا، وتحدث أصواتا مهموسة وكأنها تدندن!!
حاول التمعن بها وبإهتزازها مع تلك الريح الباردة التي تلفح وجهه، فإذا به كأنه يسمع : (روح، روح) ، لكنه لم يهتم ، فجمال حبات العنب أبهره ، واستغرب تواجده شتاءا .
قطف العناقيد وأخفاها بكيس عنده ، وحدثته نفسه قائلة : (عنب فصل الشتاء حتما معجزة ، ومؤكد لو قدمته هدية للوالي سيجازيني عليه) ، فأتم سفره إلى حيث الوالي ، واستأذن بالدخول لأمر عاجل ، ولم يسمح له.
ظل يصيح بالبوابة الكبرى : (ياسيدي الوالي ، عنب الشتاء مؤكد هبة من الله عز وجل ، لا يستحق أكلها إلا جنابكم ياسيدي الوالي) ، فلما سمع الوالي الصياح جمع كل المتواجدين وخرج إليه بنفسه ، وأمره أن يظهر ماعنده ، ومد يده لإخراج عناقيد العنب ، فصدم بما لمسته يده ، فردها مرتجفا وقلبه يكاد يتوقف من هول مالمس ! فصاح به الوالي : (هيا أرنا عنبك ياهذا!) .
فأغمي عليه ، ولما أفاق لقي حوله كل المتواجدين ينتظرون تفسيراته ؟ لمن ذلك الرأس المليان دم جديد يتقاطر وعينيه شاخصتان في اتجاهه ؟؟؟ فأغمي عليه مجددا....، ليستفيق ويشرح جريمة غدره ونذالته، ويفضح حاله بحاله بأمر من الله عز وجل .
وصدر حكم الإعدام في حقه ، إلا أنه للعبرة وقبل تنفيذ الإعدام ، فقد تقرر عقابه على فعلته الشنعاء ، باللف به بقريته والقرى المجاورة لها ، وعلى جلبابه كتب خبيث ، نذل ، غدار .
خاتمة
فإستغربت كيف حدث ذلك !؟ لكن جدي لم يستغربه ، وقال أن رب المعجزات لا يعجزه أن يحدث ذلك ، بل وأكثر منه ، وصاح بي جدي : (لحظة ، لحظة ، تذكرت الآن قصة "الإمام قدرة قادر" الأغرب منها ، سمعتها من جدي وأنا بسنك ياصغيري) .
فرحت وأسرعت بالجلوس مجددا ممسكا بيديه الحنونتين، وقد كنت قبلها تمددت لأستسلم للنوم، وطالبته أن يقصها علي فقد شوقني إليها، لكن جدي إعتذر مني، فكما سبق واتفقنا هي قصة واحدة بالليلة، ولن يقصها إلا بموعدها المعتاد، أي ليلة السبت المقبل، حيث غده الأحد هو يوم عطلتي.
قبلت شرطه مستسلما، وأخذت أسترجع الأحداث، مستغربا كيف شاءت قدرة الملك الأكبر الله، أن يأتي النذل برجليه للملك الأصغر، ويفضح نفسه بنفسه أمام الملأ، رحمة الله عليك يا جدي قال لي حينها : (لا تستغرب يابني ! ولعقاب الله بالآخرة أشد ) .
كتبت برمضان الكورونا
1441/2020
Written in Ramadan Corona