ومع القصص الأمازيغي لجدي زائرنا ، كانت لنا قصة من عهد الأجداد ، والتي جاءت ذكراها بعد مناقشة أحداث قصة "سيدنا سليمان والبومة الحكيمة" بين الحضور ليلتها .
فلأنها كانت عطلة نهاية الأسبوع فقد صادفت سهرة "قصة سيدنا سليمان" زيارة عمي وزوجته ، وعمتي وزوجها ، فكان للحضور ليلتها وزنه ، وكان للنقاش معهم رونقا ومتعة .
القصص الأمازيغي وكبرياء الرجل
وكان النقاش على أشده بين المؤيد لفكرة أن لا يتهاون الرجل وينزل من قيمة كلمته ، وبين من يعيب أيضا على ديكتاتورية بعض الرجال وقسوتهم ، والتي لا يمكن إعتبارها عدلا في حق المرأة .
يقول جدي أن الأمازيغ كانو يركزون على مسألة كبرياء الرجل أمام زوجته ، وكانت "قصة سيدنا سليمان" سببا في تذكر جدي كما سبق الذكر لقصة "خوب نتافروخت نوضوكال" التي كانت متداولة عندهم ، والتي ترجمتها "نخلة الحمو هم ثقيل" .
القصة الأمازيغية :"نخلة الحمو"
قال جدي فيما سمعه عن جده أن إحدى الزوجات كانت قد ورثت عن أبيها نخلة وكانت تمارها من أجود الأنواع ، وكانت تلك النخلة هي كل نصيبها مما ورثته وسط إخوانها لكثرتهم وقلة إرثهم .
فكانت كلما قدمت الطعام تزين مائدتها بطبق من تمر النخلة ويظل أغلب حديثها عنه وعن جودته ، وذكريات أسرتها مع تلك النخلة وتمارها ، ومن تم تعرج على منحنى الترحم عن والديها ، لتنهي سردها لذكرياتها تلك وهي حزينة باكية متباكية .
"نخلة الحمو" هم على القلب
مل زوجها من سماع نفس الأسطوانة ، لكنه ما أحب أن تعرف زوجته ذلك ، فقد كان أقل منها حالا ولم يكن له أي إرث يذكر من والديه ، أخذ يفكر في طريقة تخلصه من النخلة وذكرياتها الخالدة .
وكان له صديق مقرب هو جار يهودي ، قص عليه علته سائلا إياه المعونة في إيجاد حل ، ضحك منه اليهودي قائلا :( ياغبي تمتع بأكل ثمارك ولا تهتم لكلماتها ، ألستم من يقول بيت لاتمر فيه جياع أهله ) .
لكن الصديق لم يتقبل الفكرة نهائيا ، وأخبر جاره أن كبرياءه لايقبل ، فقد وصلت به المسألة درجة لم يعد يجد فيها لذة لتمار نخلة حماه ، بل ولا لأي تمر غيره ، حينها إقترح عليه الجار فكرة يغري بها الزوجة ويتخلص من هم نخلة الحمو وتمارها .
"نخلة الحمو" للتسقيف
فرحت الزوجة لذلك ، لكنه أضاف قائلا أن سقف الغرفة سيتطلب شراء أعمدة من خشب النخيل ، وقد فكر أن يستغل نخلتها الوحيدة والمتواجدة بحقل أخوها ، مما يوفر عليهم شراء الأعمدة .
فجمدت الزوجة مكانها ، وتوقفت ملامح وجهها مابين الفرحة والصعقة ، لتجيبه متلعثمة أن مسألة الغرفة الجديدة أسعدتها حقا ، لكن نخلة والدها غالية جدا عليها...
فقاطعها ضاحكا أنها مثل ما كانت تنتفع بتمرها ، فها هي الآن ستنتفع بخشبها ، وأن أباها لو كان حيا سيسعد أكثر أنه نفعها بالتوسعة عليها ببيتها ، ورغبة منها بزيادة توسعة المنزل وافقت على مضض .
وهكذا كان ، قطعت النخلة ، وبنيت الغرفة ، وسقفت ، وبثلاثة أيام تم كل شيء بسلام ، سعد الزوج وسعدت الزوجة .
وما أن جلسوا فيها للأكل حتى بدأت تترحم على والدها الذي كان سببا في التوسيع عليهم ، ونخلته الضخمة الطويلة الأعمدة ذات التمر الجميل ، الذي لو أكلت من تمار الدنيا لن تأكل مثل تمارها ، وها هو خشبها يزين الغرفة ، وكلما رفعت رأسها للسقف ترحمت على والدها وجميل إرثها منه .
"نخلة الحمو" للتدفأة
إستنجد بجاره قائلا أن الغرفة صارت تضيق به ، ولا يمكنه أن يتحمل سماع التمجيد بذكرى حماه وإرثه ، كما أن كبرياءه يمنعه من إظهار ذلك لزوجته .
هنا كانت فكرة الجار القاضية لذكرى "نخلة الحمو" ، فهاقد حل فصل الشتاء وإشتدت قساوة البرد ، فلما لا يستعمل خشبها للتدفئة ؟! وتحترق وتصبح رمادا تدروه الرياح .
وكان أن خرج يوما لشراء خشب التدفئة بعد أن انقضى الحطب ببيته ، لكنه عاد حزينا وأخبر زوجته أن الخشب زاد ثمنه لكثرة الطلب عليه ، وهو أبدا لن يشتريه بذلك الثمن المبالغ فيه ، ثم أخبرها أن عليهم الصبر مؤكد بعد شهر ستنزل الأسعار .
فصاحت به : (كيف ذلك إن صبرنا على التدفئة فمن أين لنا أن نطبخ طعامنا ؟؟ الأمطار من أسبوع وهي تتهاطل مما جعل مسألة خروجي مع نسوة القرية للحطب مستحيلة ..)
هنا أخبرها أن الحل الوحيد هو إستخراج سقف غرفة الحديقة فصاحت به :(ولكنها نخلة أبي المرحوم ذات التمر..) أسكتها قائلا : (عليك بالدعاء له ، سيكون أبوك أكثر سعادة في قبره أنه نفعك بخشب نخلته ...)
دمعت عينها دمعتين مسحتهما ، ووافقت بعد أن أخذت منه عهدا أن يعاود تسقيف الغرفة عند رخص الخشب ، وعدها وأسرع إلى فأسه ومنشاره .
إستخرج خشب النخلة وقطعه قطع صغيره صالحة للتدفئه وللطبيخ ...أحس بسعادة عارمة وهو بمهمته ، فهو بهذا سيرتاح أخيرا من ذكر النخلة وثمرها ، والمرحوم حماه صاحبها .
وما أن حل المساء وجاء وقت التدفئه حتى بدأت الزوجة تترحم على والدها الذي كان سببا في تدفئتهم وطبخ أكلهم ، وأن خشب النخلة سبحان الله مبارك فقد إستخرجت منه كمية تعادل ماقد يستخرج من نخلتين .
وهنا وافقها الزوج وأخذ يترحم هو الآخر على حماه مؤيدا كلامها وأنهم ما كانوا أكلوا ولا إستدفئوا لولا هذه النخلة المباركة ويقول مع نفسه : (الحمد لله فلتترحمي على إرثكي العظيم ، فكلما إحترق عود من أعواد هذه النخلة احترقت معه قطعة من ذكرى نخلة أبوك المباركة) .
خاتمة
وما أن دخلوها حتى صاحت :(سبحان الله كان سقفها بنخلة أبي رحمة الله عليه أكثر تنسيقا وجمالا، فلون خشب نخلة أبي من البني الفاتح اللامع أليس كذلك ؟) أجابها : (ياالله أرجوك لا تبدئي، فقد مات أبوكي مثلما مات أبي ومثلما سنموت جميعا ).
فقالت : (أعلم ذلك، إنما كان كلامي على نخلة أبي سبحان الله كم كانت مباركة، تمتعنا زمنا بتمارها وتلذذنا زمنا بطبيخ خشبها، وحتى الدفئ!! ألم تلاحظ أن هذه الشتوية لم نحسها وكانت رحيمة بنا، والآن استغربت الفرق بين سقف الغرفة السابق وهذا الحالي، بالله عليك ألم تلاحظ أنت ذلك ؟ ) .
هنا تذكر المثل الأمازيغي القائل :(أوت تمطوط ستمطوط تافد راحت) والذي ترجمته : ( إضرب المرأة بالمرأة ترتاح )، أجابها مبتسما : ( فعلا صدقتي الفرق واضح، والسبب أن خشب التسقيف الجديد أنا إشتريته مقطعا، أما نخلة أبوك فأنا من قطعه بحرفية متتبعا خطوات معينة أظهرت جماليته).
ثم تابع قائلا : (وسبحان الله الخطوات أخبرني بها أحد معارفي بالسوق، قال أن كل خشب التسقيف ببيته كان من نخيل أبو زوجته، لأنها ماشاء الله ورثت سبعة حقول عن أبيها، وكل حقل به خمس نخلات أو أكثر). ثم استرد قائلا :( تصوري أنهم سقفوا جميع غرف البيت ويستدفئون منه منذ سنتين، وبيتهم أبدا لم يخلوا من التمر، رحمة الله على أباءكن وأباءنا أجمعين ).
غيرت الزوجة مجرى الكلام، وهي تتفحص أركان الغرفة، فابتسم الزوج وهو يردد بدواخله :(أمخيب دونا ميديتيوي تمطوطت أود إيفر نوكضيض غور بانس) والذي كان معناه : (منحوس من جاءته زوجته ولو بريشة طائر من بيت أبوها) .